فصل: قال الشوكاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم أمر بالتوبة؛ لأن النظر لا يسلم منه أحد في الغالب. فقال: {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
يقول الحق جل جلاله: {وتوبوا إلى الله جميعًا أَيُّه المؤمنون}؛ إذ لا يكاد يخلو أحدكم من تفريط، ولاسيما في الكف عن الشهوات، وقيل: توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية، فإنه، وإن جُبّ بالإسلام، لكن يجب الندم عليه، والعزم على الكف عنه، كلما يُتَذَكَّرُ، ويَخْطِرُ بالبال.
وفي تكرير الخطاب بقوله: {أية المؤمنون}: تأكيد للإيجاب، وإيذان بأن وصف الإيمان موجب للامتثال، حَتْمًا. قيل: أحوج الناس إلى التوبة من توهم أنه ليس له حاجة إلى التوبة. وظاهر الآية: أن العصيان لا ينافي الإيمان، فبادروا بالتوبة {لعلكم تفلحون}؛ تفوزون بسعادة الدارين. وبالله التوفيق.
الإشارة: التوبة أساس الطريق، ومنها السير إلى عين التحقيق، فَمَنْ لاَ تَوْبَةَ لَهُ لا سَيْرَ لَهُ، كمن يبني على غير أساس. والتوبة يَحْتَاجُ إليها المبتدىء والمتوسط والمنتهي، فتوبة المبتدىء من المعاصي والذنوب، وتوبة السائر: من الغفلة ولوث العيوب، وتوبة المنتهي: من النظر إلى سوى علام الغيوب.
قال ابن جزي: التوبة واجبة على كل مكلف، بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
وفرائضها ثلاثة: الندم على الذنب؛ من حيث عُصِيَ به ذو الجلال، لا من حيث أضر ببدن أو مال. والإقلاع على الذنب في أول أوقات الإمكان، من غير تأخير ولا توان، والعزم ألا يعود إليها أبدًا. ومهما قضى الله عليه بالعود، أحْدَثَ عَزْمًا مُجَدَّدًا. وآدابها ثلاث: الاعتراف بالذنب، مقرونًا بالانكسار، والإكثار من التضرع والاستغفار، والإكثار من الحسنات لمحو ما تقدم من الأوزار. ومراتبها سبع: فتوبة الكفار من الكفر، وتوبة المُخَلِّطِينَ من الذنوب الكبائر، وتوبة العدول من الصغائر، وتوبة العابدين من الفترات، وتوبة السالكين من عِلَلِ القلوب والآفات، وتوبة أهل الورع من الشبهات، وتوبة أهل المشاهدة من الغفلات. والبواعث على التوبة سبعة: خوف العقاب، ورجاء الثواب، والخجل من الحساب، ومحبة الحبيب، ومراقبة الرقيب، وتعظيم المقام، وشكر الإنعام. اهـ.

.قال الشوكاني:

{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}.
لما ذكر سبحانه حكم الاستئذان، أتبعه بذكر حكم النظر على العموم، فيندرج تحته غضّ البصر من المستأذن، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإذن من أجل البصر» وخص المؤمنين مع تحريمه على غيرهم، لكون قطع ذرائع الزنا التي منها النظر هم أحق من غيرهم بها، وأولى بذلك ممن سواهم.
وقيل: إن في الآية دليلًا على أن الكفار غير مخاطبين بالشرعيات كما يقوله بعض أهل العلم، وفي الكلام حذف، والتقدير قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ غضوا يَغُضُّواْ، ومعنى غضّ البصر: إطباق الجفن على العين بحيث تمتنع الرؤية، ومنه قول جرير:
فغضّ الطرف إنك من نمير ** فلا كعبًا بلغت ولا كلابا

وقول عنترة:
وأغضّ طرفي ما بدت لي جارتي ** حتى يوارى جارتي مأواها

و{من} في قوله: {مِنْ أبصارهم} هي: التبعيضية، وإليه ذهب الأكثرون، وبينوه بأن المعنى: غضّ البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل.
وقيل: وجه التبعيض: أنه يعفى للناظر أوّل نظرة تقع من غير قصد.
وقال الأخفش: إنها زائدة، وأنكر ذلك سيبويه.
وقيل: إنها لبيان الجنس قاله أبو البقاء.
واعترض عليه: بأنه لم يتقدّم مبهم يكون مفسرًا بمن، وقيل: إنها لابتداء الغاية قاله ابن عطية، وقيل: الغضّ النقصان، يقال: غضّ فلان من فلان أي: وضع منه، فالبصر إذا لم يمكن من عمله، فهو: مغضوض منه، ومنقوص، فتكون {مِنْ} صلة للغضّ، وليست لمعنى من تلك المعاني الأربعة.
وفي هذه الآية دليل على تحريم النظر إلى غير من يحلّ النظر إليه، ومعنى {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ}: أنه يجب عليهم حفظها عما يحرم عليهم.
وقيل: المراد ستر فروجهم عن أن يراها من لا تحلّ له رؤيتها، ولا مانع من إرادة المعنيين، فالكل يدخل تحت حفظ الفرج.
قيل: ووجه المجيء بمن في الأبصار دون الفروج أنه موسع في النظر فإنه لا يحرم منه إلاّ ما استثنى، بخلاف حفظ الفرج فإنه مضيق فيه، فإنه لا يحلّ منه إلاّ ما استثنى.
وقيل: الوجه أن غضّ البصر كله كالمتعذر، بخلاف حفظ الفرج فإنه ممكن على الإطلاق، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما ذكر من الغضّ، والحفظ، وهو مبتدأ، وخبره: {أزكى لَهُمْ} أي: أظهر لهم من دنس الريبة، وأطيب من التلبس بهذه الدنيئة {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} لا يخفى عليه شيء من صنعهم، وفي ذلك وعيد لمن لم يغضّ بصره، ويحفظ فرجه.
{وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن} خصّ سبحانه الإناث بهذا الخطاب على طريق التأكيد لدخولهنّ تحت خطاب المؤمنين تغليبًا كما في سائر الخطابات القرآنية، وظهر التضعيف في يغضضن، ولم يظهر في يغضوا، لأن لام الفعل من الأوّل متحرّكة، ومن الثاني ساكنة، وهما في موضع جزم جوابًا للأمر، وبدأ سبحانه بالغضّ في الموضعين قبل حفظ الفرج؛ لأن النظر وسيلة إلى عدم حفظ الفرج، والوسيلة مقدّمة على المتوسل إليه، ومعنى: {يغضضن من أبصارهنّ} كمعنى: يغضوا من أبصارهم، فيستدلّ به على تحريم نظر النساء إلى ما يحرم عليهنّ، وكذلك يجب عليهنّ حفظ فروجهنّ على الوجه الذي تقدّم في حفظ الرجال لفروجهم {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} أي: ما يتزينّ به من الحلية، وغيرها، وفي النهي عن إبداء الزينة نهي عن إبداء مواضعها من أبدانهنّ بالأولى.
ثم استثنى سبحانه من هذا النهي، فقال: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}.
واختلف الناس في ظاهر الزينة ما هو؟ فقال ابن مسعود، وسعيد بن جبير: ظاهر الزينة هو الثياب، وزاد سعيد بن جبير الوجه.
وقال عطاء، والأوزاعي: الوجه والكفان.
وقال ابن عباس، وقتادة والمسور بن مخرمة: ظاهر الزينة هو الكحل والسواك والخضاب إلى نصف الساق ونحو ذلك، فإنه يجوز للمرأة أن تبديه.
وقال ابن عطية: إن المرأة لا تبدي شيئًا من الزينة، وتخفي كل شيء من زينتها، ووقع الاستثناء فيما يظهر منها بحكم الضرورة.
ولا يخفى عليك أن ظاهر النظم القرآني النهي عن إبداء الزينة إلاّ ما ظهر منها كالجلباب، والخمار، ونحوهما مما على الكف، والقدمين من الحلية، ونحوها، وإن كان المراد بالزينة: مواضعها كان الاستثناء راجعًا إلى ما يشق على المرأة ستره كالكفين والقدمين، ونحو ذلك.
وهكذا إذا كان النهي عن إظهار الزينة يستلزم النهي عن إظهار مواضعها بفحوى الخطاب، فإنه يحمل الاستثناء على ما ذكرناه في الموضعين، وأما إذا كانت الزينة تشمل مواضع الزينة، وما تتزين به النساء فالأمر واضح، والاستثناء يكون من الجميع.
قال القرطبي في تفسيره: الزينة على قسمين: خلقية، ومكتسبة؛ فالخلقية: وجهها فإنه أصل الزينة، والزينة المكتسبة: ما تحاوله المرأة في تحسين خلقها كالثياب، والحلى، والكحل، والخضاب، ومنه قوله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31]، وقول الشاعر:
يأخذن زينتهنّ أحسن ما ترى ** وإذا عطلن فهنّ خير عواطل

{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ} قرأ الجمهور بإسكان اللام التي للأمر.
وقرأ أبو عمرو بكسرها على الأصل لأن أصل لام الأمر الكسر، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس.
والخمر: جمع خمار، وهو ما تغطي به المرأة رأسها، ومنه اختمرت المرأة، وتخمرت.
والجيوب: جمع جيب، وهو موضع القطع من الدرع، والقميص، مأخوذ من الجوب، وهو القطع.
قال المفسرون: إن نساء الجاهلية كنّ يسدلن خمرهنّ من خلفهنّ، وكانت جيوبهنّ من قدّام واسعة، فكان تنكشف نحورهنّ، وقلائدهنّ، فأمرن أن يضربن مقانعهنّ على الجيوب لتستر بذلك ما كان يبدو، وفي لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء الذي هو: الإلصاق.
قرأ الجمهور {بخمرهنّ} بتحريك الميم، وقرأ طلحة بن مصرف بسكونها.
وقرأ الجمهور: {جيوبهنّ} بضم الجيم، وقرأ ابن كثير، وبعض الكوفيين بكسرها، وكثير من متقدمي النحويين لا يجوّزون هذه القراءة.
وقال الزجاج: يجوز: أن يبدل من الضمة كسرة، فأما ما روي عن حمزة من الجمع بين الضم والكسر فمحال لا يقدر أحد أن ينطق به إلاّ على الإيماء، وقد فسّر الجمهور الجيوب بما قدّمنا، وهو: المعنى الحقيقي، وقال مقاتل: إن معنى على جيوبهنّ: على صدورهنّ، فيكون في الآية مضاف محذوف أي: على مواضع جيوبهنّ.
ثم كرر سبحانه النهي عن إبداء الزينة لأجل ما سيذكره من الاستثناء، فقال: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} البعل هو: الزوج والسيد في كلام العرب، وقدّم البعولة لأنهم المقصودون بالزينة، ولأن كل بدن الزوجة والسرية حلال لهم، ومثله قوله سبحانه: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} [المؤمنون: 5 6]، ثم لما استثنى سبحانه الزوج أتبعه باستثناء ذوي المحارم، فقال {أو آبائهنّ أو آباء بعولتهن} إلى قوله: {أَوْ بَنِى أخواتهن} فجوّز للنساء أن يبدين الزينة لهؤلاء لكثرة المخالطة، وعدم خشية الفتنة لما في الطباع من النفرة عن القرائب.
وقد روي عن الحسن والحسين رضي الله عنهما: أنهما كانا لا ينظران إلى أمهات المؤمنين ذهابًا منهما إلى أن أبناء البعولة لم يذكروا في الآية التي في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي قوله: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في ءَابَائِهِنَّ} [الأحزاب: 55] والمراد بأبناء بعولتهنّ ذكور أولاد الأزواج، ويدخل في قوله: {أَوْ أَبْنَائِهِنَّ} أولاد الأولاد، وإن سفلوا، وأولاد بناتهنّ، وإن سفلوا، وكذا آباء البعولة، وآباء الآباء، وآباء الأمهات، وإن علوا، وكذلك أبناء البعولة، وإن سفلوا، وكذلك أبناء الإخوة، والأخوات.
وذهب الجمهور إلى أن العمّ والخال كسائر المحارم في جواز النظر إلى ما يجوز لهم، وليس في الآية ذكر الرضاع، وهو كالنسب.
وقال الشعبي، وعكرمة: ليس العمّ والخال من المحارم، ومعنى {أَوْ نِسَائِهِنَّ} هنّ: المختصات بهنّ الملابسات لهنّ بالخدمة، أو الصحبة، ويدخل في ذلك الإماء، ويخرج من ذلك نساء الكفار من أهل الذمة، وغيرهم، فلا يحل لهنّ أن يبدين زينتهنّ لهنّ لأنهن لا يتحرّجن عن وصفهنّ للرجال.
وفي هذه المسألة خلاف بين أهل العلم، وإضافة النساء إليهن تدل على اختصاص ذلك بالمؤمنات {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن} ظاهر الآية يشمل العبيد، والإماء من غير فرق بين أن يكونوا مسلمين أو كافرين، وبه قال جماعة من أهل العلم، وإليه ذهبت عائشة، وأمّ سلمة، وابن عباس، ومالك، وقال سعيد بن المسيب: لا تغرّنكم هذه الآية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن} إنما عني بها الإماء، ولم يعن بها العبيد.
وكان الشعبي يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته، وهو قول عطاء، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، وروي عن ابن مسعود، وبه قال أبو حنيفة، وابن جريج {أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال} قرأ الجمهور {غير} بالجر.
وقرأ أبو بكر، وابن عامر بالنصب على الاستثناء، وقيل: على القطع، والمراد بالتابعين: هم الذين يتبعون القوم فيصيبون من طعامهم لا همة لهم إلاّ ذلك، ولا حاجة لهم في النساء، قاله مجاهد، وعكرمة، والشعبي، ومن الرجال في محل نصب على الحال.
وأصل الإربة والإرب والمأربة: الحاجة، والجمع: مآرب، أي: حوائج، ومنه قوله سبحانه: {وَلِي فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] ومنه قول طرفة:
إذا المرء قال الجهل والحوب والخنا ** تقدّم يومًا ثم ضاعت مآربه

وقيل: المراد بغير أولي الإربة من الرجال: الحمقى الذين لا حاجة لهم في النساء، وقيل: البله، وقيل: العنين، وقيل: الخصي، وقيل: المخنث، وقيل: الشيخ الكبير، ولا وجه لهذا التخصيص، بل المراد بالآية ظاهرها، وهم: من يتبع أهل البيت، ولا حاجة له في النساء، ولا يحصل منه ذلك في حال من الأحوال، فيدخل في هؤلاء من هو بهذه الصفة ويخرج من عداه {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عورات النساء} الطفل: يطلق على المفرد والمثنى، أو المراد به هنا: الجنس الموضوع موضع الجمع بدلالة وصفه بوصف الجمع، وفي مصحف أبيّ {أو الأطفال} على الجمع، يقال للإنسان طفل: ما لم يراهق الحلم، ومعنى {لَمْ يَظْهَرُواْ} لم يطلعوا، من الظهور بمعنى الاطلاع، قاله ابن قتيبة.